فصل: الشاهد الثاني والثلاثون بعد الخمسمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثاني والثلاثون بعد الخمسمائة

‏؟‏يا رب يا رباه إياك أسل على أن الهاء في رباه للسكت، وتضم وتكسر‏.‏

وتقدم في باب المندوب أنها تفتح أيضاً عند بعضهم، إذا كانت بعد ألف كما هنا‏.‏ ففيها بعد الألف ثلاث حركات‏.‏

وذكر هنا أنها تزاد في السعة وصلاً ووقفاً في آخر هنٍ وإخوته‏.‏ وهي في نحو هذين البيتين في حال الضرورة، وهذا قول الكوفيين وبعض البصريين‏.‏ وقدم في باب المندوب أن الكوفيين يثبتونها وقفاً ووصلاً في الشعر وغيره‏.‏ ففي كلاميه تدافع‏.‏

قال الفراء في تفسيره من سورة الزمر، عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا حسرتا‏}‏‏:‏ يا ويلتا مضافٌ إلى المتكلم‏.‏ تحول العرب الياء إلى الألف في كل كلام كان معناه الاستغاثة‏:‏ يخرج على لفظ الدعاء‏.‏

وربما أدخلت العرب الهاء بعد الألف التي في حسرتا، فيخفضونها مرة، ويرفعونها‏.‏ أنشدني أبو فقعس، بعض بني أسد‏:‏ الرجز

يا رب يا رباه إياك أسل *** عفراء يا رباه من قبل الأجل

فخفض‏.‏

وأنشدني أيضاً‏:‏ الرجز

يا مرحباه بحمارٍ ناهيه *** إذا أتى قربته للسانيه

والخفض أكثر في كلام العرب، إلا في قولهم‏:‏ يا هناه ويا هنتاه، فالرفع في هذا أكثر من الخفض، لأنه كثر في الكلام، فكأنه حرفٌ واحدٌ مدعو‏.‏ انتهى‏.‏

وظاهره على إطلاقه لا يختص بضرورةٍ عندهم، وأما عند البصريين فلا يجوز تحريكها، ولا تلحق وصلاً في غير‏:‏ يا هناه‏.‏

والبيتان المذكوران وقعا بلا مناسبةٍ في أوائل إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت، قال شارح أبياته يوسف بن السيرافي‏:‏ لم ينشد يعقوب هذين البيتين، ولا الأبيات التي بعدهما شاهداً لشيءٍ تقدم، وإنما أنشد ذلك، لأن الهاء تضم وتكسر، وهذا لا يتعلق بالباب‏.‏

وهذه الهاء ليست من الكلمة، وإنما دخلت للوقف، ثم احتاج إلى وصلها الشاعر فحركها بالكسر‏.‏

ومن ضم شبهها بهاء الضمير، وهذا رديءٌ جداً‏.‏ وعفراء‏:‏ اسم امرأة سأل ربه أن يريه إياها قبل أجله، ويجمع بينهما‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الزمخشري في المفصل‏:‏ وحق هاء السكت أن تكون ساكنة، وتحريكها لحنٌ، نحو ما في إصلاح المنطق لابن السكيت، من قوله‏:‏

يا مرحباه بحمار عفراء

و‏:‏

يا مرحباه بحمار ناجيه

مما لا معرج عليه للقياس واستعمال الفصحاء‏.‏ ومعذرة من قال ذلك أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، مع تشبيه هاء الوقف بهاء الضمير‏.‏

قال شارحه ابن يعيش‏:‏ اعلم أنه قد يؤتى بهذه الهاء لبيان حروف المد واللين، كما يؤتى بها لبيان حروف المد واللين، كما يؤتى بها لبيان الحركات‏.‏

ولا تكون إلا ساكنة لأنها موضوعةٌ للوقف، والوقف إنما يكون على الساكن‏.‏

وتحريكها لحنٌ وخروجٌ عن كرم العرب، لأنه لا يجوز ثبات هذه الهاء في الوصل فتحرك، بل إذا وصلت استغنت عنها بما بعدها من الكلام‏.‏

فأما قوله‏:‏

يا مرحباه بحمار عفراء

فإن الشعر لعروة بن حزام العذري‏.‏ وقول الآخر‏:‏

يا مرحباه بحمار ناجيه

فضرورة، وهو رديء في الكلام‏.‏ وإنما اضطر الشاعر حين وصل إلى التحريك، لأنه لا يجتمع ساكنان في الوصل على غير شرط إلا حرك‏.‏ وقد رويت بضم الهاء وكسرها‏.‏ فالكسر لالتقاء الساكنين، والضم على التشبيه بهاء الضمير‏.‏ وبعد هذا البيت‏:‏ الرجز

إذا أتى قربته لما شاء *** من الشعير والحشيش والماء

ومعناه أن عروة كان يحب عفراء، وفيها يقول‏:‏

يا رب يا رباه إياك أسل *** عفراء يا رباه من قبل الأجل

فإن عفراء من الدنيا الأمل

ثم خرج، فلقي حماراً عليه امرأةٌ، فقيل له‏:‏ هذا حمار عفراء فقال‏:‏

يا مرحباه بحمار عفراء

فرحب بحمارها لمحبته لها، وأعد له الشعير والحشيش والماء‏.‏

ونظير معناه قول الآخر‏:‏ الوافر

أحب لحبها السودان حتى *** أحب لحبها سود الكلاب

انتهى‏.‏

وهذا من رجز أورده أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب ولم ينسبه إلى أحد، وهو‏:‏ الرجز

إليك أشكو عرق دهرٍ ذي خبل *** وعيلاً شعثاً صغاراً كالحجل

وأمهم تهتف تستكسي الحلل *** قد طار عنها درعها ما لم يخل

يا رب يا رباه إياك أسل *** عفراء يا رباه من قبل الأجل

فإن عفراء من الدنيا أمل *** لو كلمت رهبان ديرٍ في قلل

لزحف الرهبان يمشي وزحل

وقد راجعت ديوان عروة فلم أجد هذا الرجز‏.‏

وعروة تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة‏.‏

وقوله‏:‏ عرق دهرٍ ذي خبل ، العرق، بفتح العين وسكون الراء المهملتين‏:‏ مصدر عرقت العظم، من باب نصر، إذا أكلت ما عليه من اللحم‏.‏ والخبل‏:‏ الفساد‏.‏ والعيل، بفتحيتين‏:‏ لغة في العيال‏.‏ وتهتف‏:‏ تصوت‏.‏ والحلل، بضم ففتح، قال الصاغاني‏:‏ هي برود اليمن‏.‏ والحلة‏:‏ إزارٌ ورداءٌ، لا تسمى حلة حتى تكون ثوبين‏.‏ والدرع، بالكسر‏:‏ ثوب المرأة خاصة‏.‏ ويخل بالخاء المعجمة، أي‏:‏ يتفقد‏.‏ والخائل‏:‏ الحافظ للشيء، يقال‏:‏ فلان يخول على أهله، أي‏:‏ يرعى عليهم ويتفقدهم‏.‏ وأسل‏:‏ أصله أسأل، مخففٌ بحذف الهمزة‏.‏ وزحل بالزاء المعجمة والحاء المهملة‏:‏ فارق مكانه، وجاء إليها‏.‏

تتمة قد حقق الشارح المحقق هنا أن الألف والهاء في يا هناه زائدتان، بدليل أنهما تلحقان فروعه من التثنية والجمع والتأنيث، كما نقله عن الأخفش، فيكون من المحذوف اللام، ووزنه فعاه‏.‏

وقصد بهذا البيان الوافي الرد على ابن جني في زعمه أن الهاء لام الكلمة، وأن وزنها فعال، وشدد في زعمه، وخطأ من عدها للسكت‏.‏

فرد عليه الشارح بأنها قد لحقت مع الألف آخر المثنى والمجموع على حده، وآخر المؤنث‏.‏ ولو كانت لاماً لما جاز تأخيرها‏.‏ وأجاب على تحريك الهاء‏.‏

وهذه عبارة ابن جني في سر الصناعة في إبدال الهاء من الواو، قال‏:‏ أبدلوها من حرف واحد، وهو قول امرئ القيس‏:‏ المتقارب

وقد رابني قولها يا هن *** ه ويحك ألحقت شراً بشر

فالهاء الأخيرة في هناه بدل من الواو في‏:‏ هنوك وهنوات، وكان أصله هناو، فأبدلت الواو هاء، قالوا‏:‏ هناه‏.‏ هكذا قال أصحابنا‏.‏

ولو قال قائل‏:‏ إن الهاء إنما هي بدل من الألف المنقلبة عن الواو الواقعة بعد ألف هناه، إذ أصله هناو، ثم صارت هنا بألفين، كما أن أصل عطاء عطاو، ثم صار بعد القلب عطاا، فلما صار هناا التقت ألفان، كره اجتماع الساكنين فقلبت الألف الأخيرة هاء فقالوا‏:‏ هناه، كما أبدل الجميع من ألف عطاا الثانية همزة لئلا يجتمع همزتان، لكان قولاً قوياً، ولكان أيضاً أشبه من أن يكون قلبت الواو في أول أحوالها هاء، من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن من شريطة قلب الواو ألفاً أن تقع طرفاً بعد ألف زائدة، وقد وقعت هنا كذلك‏.‏

والآخر‏:‏ أن الهاء إلى الألف أقرب منها إلى الواو، بل هما في الطرفين‏.‏ ألا ترى أن أبا الحسن ذهب إلى أن الهاء مع الألف من موضع واحد لقرب مكانيهما‏.‏ فقلب الألف إذاً هاءً أقرب من قلب الواو هاء‏.‏

وكتب إلي أبو علي من حلب، في جواب شيءٍ سألته عنه، فقال‏:‏ وقد ذهب أحد علمائنا إلى أن الهاء من هناه إنما لحقت في الوقف لخفاء الألف، كما تلحق بعد ألف الندبة، ثم إنها شبهت بالهاء الأصلية فحركت‏.‏

ولم يسم أبو عليٍّ هذا العالم من هو‏؟‏ فلما انحدرت إليه إلى مدينة السلام وقرأت عليه نوادر أبي زيد، نظرت وإذا أبو زيد هو صاحب هذا القول‏.‏

وهذا من أبي زيد غير مرضيٍّ عند الجماعة، وذلك أن الهاء التي تلحق لبيان الحركات وحروف اللين إنما تلحق في الوقف، فإذا صرت إلى الوصل حذفتها البتة، فلم توجد فيه ساكنة متحركة‏.‏

وقد استقصيت هذا الفصل في كتابي في شعر المتنبي عند قوله‏:‏ البسيط

واحر قلباه ممن قلبه شبم

ودللت هناك على ضعف قول أبي زيد، وبيت المتنبي جميعاً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن جهور في إعراب أبيات الجمل‏:‏ واختلف في أصلها فذهب قومٌ إلى أن هذه الهاء أصل وليست بمبدلة، وأنها مثل سنة وعضة، التي لامها تارةً هاء، وتارةً حرف علة‏.‏

وهذا القول ضعيفٌ من جهة أن باب قلق وسلس قليل‏.‏

وذهب آخرون إلى أن الألف والهاء زائدتان، وعلى هذا كثيرٌ من البصريين والكوفيين، بدليل قولهم‏:‏ هن وهنة، وأن لام الكلمة محذوفة‏.‏ وعلى هذا تأتي مسائل التثنية والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ فالألف والهاء في كونهما زائدتين نظيرتا الألف والهاء في الندبة، إلا أن هذه الهاء ليست للسكت، كما ذهب إليه بعضهم لتحركها، وهاء السكت لا تتحرك‏.‏

ومن جعلها هاء سكت، قال‏:‏ زيدت الألف لبعد الصوت، وزيدت الهاء للوقف، ثم كثر في كلامهم حتى صارت الهاء كأنها أصلية تحركت‏.‏

فإذا ثنيته على هذا قلت‏:‏ يا هنانيه أقبلا‏.‏ فالألف والنون للتثنية، والياء التي بعد النون هي الألف التي كانت في هناه، فانقلبت ياءً لانكسار ما قبلها، وهو نون التثنية، وانكسرت الهاء بعد أن كانت مضمومة لمجاورتها الياء‏.‏ وتقول في الجمع‏:‏ يا هنوناه أقبلوا، الواو والنون للجمع، والألف بعد النون بقيت على حالها لانفتاح نون الجمع قبلها، وبقيت على حالها مضمومة‏.‏

وإنما جاز أن يجمع هذا بالواو والنون من قبل أن هذه الكلمة قد تطرق عليها التغيير بحذف لامها، فصارت الواو والنون كالعوض من لام الكلمة على حد قولهم‏:‏ سنون‏.‏

وتقول في المؤنث‏:‏ يا هنتاه أقبلي، وفي التثنية‏:‏ يا هنتانيه أقبلا، وفي الجمع‏:‏ يا هناتوه أقبلن، قلبت ألف هناه واواً لانضمام ما قبلها، كما قلبتها ياءً لانكسار ما قبلها في التثنية‏.‏

وهناه كلمة يكنى بها عن النكرات، كما يكنى بفلانٍ عن الأعلام‏.‏ فمعنى يا هناه‏:‏ يا رجل‏.‏ ولا تستعمل إلا في النداء عند الجفاء والغلظة‏.‏

وقيل‏:‏ إنها كناية عن الفواحش والعورات، يكنى بها عما يستقبح ذكره‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ فمعنى هناه‏:‏ يا رجل، مساوٍ لقول الشارح المحقق‏:‏ للمنادى غير المصرح باسمه‏.‏

وإنما أورده في باب العلم استطراداً بمناسبة هن الذي قد يكنى به عن العلم‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ومنه، أي‏:‏ ومن هنٍ المذكور‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والثلاثون بعد الخمسمائة

المنسرح

قل لابن قيسٍ أخي الرقيات *** ما أحسن العرف في المصيبات

على أن هذا البيت يدل على أن الرقيات في قولهم‏:‏ قيس الرقيات بالإضافة، ليس من باب إضافة الاسم إلى اللقب، بل هو من باب الإضافة لأدنى ملابسة، لنكاحه لنسوةٍ اسم كل منها رقية‏.‏ وقيل‏:‏ هن جداته‏.‏ وقيل‏:‏ شبب بثلاثٍ كذلك‏.‏

ولو كان الرقيات لقباً لقيس لقيل في البيت‏:‏ قل لابن قيس الرقيات، فلما أضاف أخاً إليه، وأتبعه لقيس في إعرابه، علم أنه غير لقب لقيس، ولو كان لقباً له لقيل قيس الرقيات، إما بتنوين قيس وإتباع الرقيات له بجعله عطف بيان له، وإما بإضافته إلى الرقيات‏.‏

فلما أتبعه بإضافة أخ إلى الرقيات، علم أنه غير لقب له، فعرف أن الإضافة إليها في قولهم قيس الرقيات للملابسة المذكورة‏.‏

هذا على تقرير الشارح‏.‏ وأما على ما سيأتي، فأخي الرقيات تابع لابن لا لقيس‏.‏ والعرف، بكسر العين وسكون الراء المهملتين، قال صاحب العباب‏:‏ هو الصبر‏.‏ وأنشد البيت عن ابن الأعرابي‏.‏ يتعجب من الصبر في المصائب‏.‏ والأخ يستعمل في اللغة على خمسة معان‏:‏ الأول‏:‏ أخو النسب من الأبوين، ومن أحدهما‏.‏

الثاني‏:‏ أخو النسبة إلى القوم، يقال‏:‏ يا أخا تميم، لمن هو منهم‏.‏ وبه فسر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أخت هارون‏}‏‏.‏

الثالث‏:‏ أخو الصداقة‏.‏

الرابع‏:‏ أخو المجانسة والمشابهة، كقولهم‏:‏ هذا الثوب أخو هذا‏.‏

الخامس‏:‏ أخو الملازمة والملابسة، كقولهم‏:‏ أخو الحرب، وأخو الليل‏.‏

فإن كان الرقيات عبارةً عن الزوجات، والمعشوقات، فالأخ بالمعنى الأخير‏.‏ وإن كان أريد بها الجدات، فالأخ بالمعنى الثاني‏.‏

ولم يذكر الشارح المحقق وجه تلقيبه بالرقيات على تقدير كون الرقيات لقباً‏.‏ فأقول‏:‏ يكون وجهه ما نقله كراع من أنه إنما لقب بهذا لقوله‏:‏ مجزوء الوافر

رقية لا رقية ل *** رقية أيها الرجل

قال ابن دريد في الوشاح‏:‏ من الشعراء من غلبت عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى صاروا لا يعرفون إلا بها‏.‏ فمنهم‏:‏ منبه بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وهو أعصر، وإنما سمي أعصر، بقوله‏:‏ الكامل

قالت عميرة ما لرأسك بعدم *** نفد الشباب أتى بلونٍ منكر

أعمير إن أباك غير رأسه *** مر الليالي واختلاف الأعصر

ومنهم‏:‏ شأس بن نهار العبدي، سمي الممزق، بقوله‏:‏ الطويل

فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل *** وإلا فأدركني ولما أمزق

ثم ذكر أكثر من خمسين شاعراً لقب بشعر قاله‏.‏

وتفصيل الشارح المحقق في قيس الرقيات أجود من تفصيل ابن الحاجب في شرح المفصل وإن كان مأخوذاً منه، وهذه عبارته‏:‏ وابن قيس الرقيات عبد الله، قال الأصمعي‏:‏ نكح قيسٌ نساءً اسم كل واحدةٍ رقية‏.‏ وقيل‏:‏ كانت له جداتٌ كذلك‏.‏

وقيل‏:‏ كان يشبب بثلاثٍ كذلك‏.‏ والاستشهاد على الوجه الضعيف في إضافته على ذلك‏.‏

فأما إذا جعل الرقيات لقباً لقيس، كانت الإضافة من باب قيس قفة، وإما على الوجوب، وعلى الأفصح كما تقدم‏.‏

ورواية تنوين قيسٍ تقوي الوجه الثاني‏.‏

وقوله‏:‏

قل لابن قيسٍ أخي الرقيات *** ما أحسن العرف في المصيبات

يقوي الوجه الأول‏.‏ انتهى‏.‏

أراد بالاستشهاد على الوجه الضعيف الإضافة لأدنى ملابسة‏.‏ وقوله‏:‏ تقوي الوجه الثاني ، أي‏:‏ كون الرقيات لقباً‏.‏

وقوله‏:‏ يقوي الوجه الأول ، أي‏:‏ كون الرقيات غير لقب‏.‏

والقول الأول، وهو أن الرقيات أسماء زوجاته قول الأصمعي، نقله عنه صاحب الصحاح‏.‏

والقول الثاني، قاله ابن سلام الجمحي، قال‏:‏ لقب بالرقيات، لأن جداتٍ له توالين كلٌّ منها تسمى رقية‏.‏

والقول الثالث قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏.‏ وقال أبو عبيد في كتاب النسب‏:‏ سمي بذلك، لأنه كان يشبب بامرأتين كلٌّ منهما تسمى رقية‏.‏ وعلى هذا يكون الجمع عبارة عن اثنتين‏.‏

واعلم أن قول الشارح المحقق تبعاً لغيره، إن الرقيات تابعٌ لقيس لا لابنه، هو قول أبي علي، فإنه قال‏:‏ قيس هو الملقب بالرقيات، لا اختلاف في ذلك، لقب به لأن له جدات توالين يسمين الرقيات‏.‏ قاله ابن سلام‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لا اختلاف في ذلك، هو خلاف الواقع، فإن الأكثرين ذهبوا إلى أنه لقب لابنه‏:‏ إما عبد الله وإما عبيد الله‏.‏

قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ إنما سمي عبد الله بن قيس أحد بني عامر بن لؤي، الرقيات، لأنه كان يشبب بثلاث نسوة، يقال لهن كلهن رقية‏.‏

وكذا في الأغاني‏.‏ ورأيت بخط الحافظ مغلطاي على هامش كامل المبرد ما نصه‏:‏ ونقلت من خط الشاطبي‏:‏ وافق الأصمعي ابن قتيبة على قوله‏.‏

فعلى هذا يقال عبد الله بن قيس الرقيات بالرفع على الصفة لعبد الله‏.‏ انتهى‏.‏

وذكر النحاس عن البرقي أن في أجداده ثلاث نسوة كل امرأة منهن تسمى رقية‏.‏ فعلى هذا يقال‏:‏ عبد الله بن قيس الرقيات على الإضافة‏.‏ قال ابن بري‏.‏

ونقلت من خط الشاطبي أيضاً‏:‏ رأيت بعض من ألف في النسب يقول‏:‏ إن ابن قيس‏.‏ انتهى ما أورده الحافظ مغلطاي‏.‏

وكذلك قال أبو عبيد في النسب‏:‏ عبيد الله بن قيس سمي بالرقيات لأنه كان يشبب بامرأتين كلٌّ منهما تسمى رقية‏.‏ انتهى‏.‏

وإذا قيل ابن قيس الرقيات، فالمراد ابنه الشاعر، فإن لقيس ابنين‏:‏ عبد الله وعبيد الله، واختلفوا في الشاعر منهما، فقال ابن قتيبة والمبرد في الكامل‏:‏ هو عبد الله المكبر‏.‏

وقال المرزباني في معجمه‏:‏ هو عبيد الله بالتصغير‏.‏ قال‏:‏ ومن الرواة من يقول الشاعر عبد الله، وهو خطأ‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن السيد فيما كتبه على الكامل‏:‏ ذكر المبرد أن اسمه عبد الله بن قيس‏.‏ وكذلك قال فيه ابن سلام، والجاحظ، وابن قتيبة‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ هو عبيد الله، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي وغيره، ومنهم الكلبي‏.‏

وكذلك قال المصعب الزبيري في أنساب قريش وبين أن له أخاً شقيقاً، يقال له‏:‏ عبد الله بن قيس، ويقال فيه نفسه الرقيات لقبٌ له، ويقال ابن الرقيات‏.‏ واختلف في معنى تلقيبه بذلك، فقال ابن قتيبة‏:‏ لأنه كان يشبب بثلاث رقيات‏.‏

وقال ابن سلام‏:‏ إنما نسب إلى الرقيات لأن له جداتٍ اسمهن رقيات‏.‏ وقال كراع‏:‏ سمي ابن قيس الرقيات لقوله‏:‏

رقية لا رقية ل *** رقية أيها الرجل

انتهى‏.‏

فأنت ترى أن مبنى كلام هؤلاء الأئمة على أن الملقب بالرقيات، إنما هو ابن قيس، لا قيس‏.‏ ولا جائز أن يقال إنه من قبيل تعدي اللقب من الأب إلى الابن، لما نقلنا عن هؤلاء الأئمة‏.‏

وعلى ما ذكرنا جرى صاحب القاموس، وخطأ صاحب الصحاح، فقال‏:‏ وعبيد الله بن قيس الرقيات، لعدة زوجاتٍ، وجداتٍ وحيات له أسماؤهن رقية كسمية‏.‏ ووهم الجوهري ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه عبارة الصحاح‏:‏ وعبد الله بن قيس الرقيات إنما أضيف قيس إليهن لأنه تزوج عدة نسوة‏.‏ إلى آخر الأقوال الثلاثة‏.‏

ونقل السيوطي عن ابن الأنباري في فصل معرفة الألقاب وأسبابها أنه كان يختار الرفع في الرقيات، ويقول‏:‏ إنه لقبٌ لعبد الله، لتشبيبه بثلاث نسوة أسماؤهن رقية‏.‏ وقال غيره‏:‏ الرقيات جداته، فهو مضاف‏.‏ انتهى‏.‏

يعني أن عبد الله مضافٌ إلى الرقيات على تفسيرها بالجدات، فيكون مثل حب رمان زيد، فإن القصد إلى إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد‏.‏ والمتلبس بالرقيات ابن قيس لا قيس‏.‏ وبهذا يوجه رواية جر الرقيات‏.‏

وابن قيس الرقيات شاعر قريش‏.‏ وهذه نسبته من الجمهرة لابن الكلبي‏:‏ عبيد الله الذي يقال له‏:‏ ابن قيس الرقيات، هو ابن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن وهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن النضر‏.‏

وعبيد الله، وشريح، ووهيب، وحجير بتقديم المهملة، ولؤي، هذه الخمسة بالتصغير‏.‏ وضباب، بالفتح‏.‏ وعبد بالإفراد‏.‏ ومعيص، بفتح الميم وكسر العين المهملة‏.‏

وعبد الله بن قيس أخو عبيد الله الرقيات له عقب، ولا عقب لعبيد الله‏.‏ وأسامة بن عبد الله بن قيس قتل يوم الحرة، وله يقول ابن قيس الرقيات‏:‏ الكامل

فنعى أسامة لي وإخوته *** فظللت مستكاً مسامعيه

ورقية، التي كان يشبب بها ابن قيس الرقيات، بنت عبد الواحد بن أبي سعد ابن قيس بن وهب بن وهبان بن ضباب‏.‏ كذا في الجمهرة ومختصرها لياقوت الحموي‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ سألت عمي مصعباً، ومحمد بن الضحاك، ومحمد بن حسن، عن شاعر قريش في الإسلام، فكلهم قالوا‏:‏ ابن قيس الرقيات‏.‏

وفي الأغاني أن ابن قيس الرقيان كان زبيري الهوى، خرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك بن مروان، فقاتل معه إلى أن قتل مصعب، فخرج هارباً حتى دخل الكوفة، فوقف على باب دارٍ فرأته صاحبة الدار فعرفت أنه خائف، فأدخلته عليةً وجاءت إليه بجميع ما يحتاجه، فأقام عندها أكثر من حولٍ، وهي لا تسأله من هو ولا يسألها من هي، وهي تسمع الجعل صباحاً ومساءً‏.‏

فبينا هو على تلك الحال، وإذا بمنادي عبد الملك ينادي ببراءة الذمة ممن أصيب عنده‏:‏ فأعلم المرأة أنه راحل، فقالت‏:‏ لا يروعك ما سمعت، فإن هذا نداءٌ شائع منذ نزلت بنا؛ فإن أردت المقام فالرحب والسعة وإن أردت الانصراف فأعلمني‏.‏ فقال لها‏:‏ لا بد من الرحيل‏.‏

فلكا كان الليل رقت إليه، وقالت‏:‏ انزل إن شئت‏.‏ فنزل وإذا راحلتان على إحداهما رحلٌ والأخرى زاملة، ومعهما عبدان ونفقة الطريق، فقالت‏:‏ العبدان لك مع الراحلتين‏.‏

فقال لها‏:‏ من أنت‏؟‏ فوالله ما رأيت أكرم منك‏؟‏ قالت‏:‏ أنا التي تقول فيها‏:‏ المنسرح

عاد له من كثيرة الطرب *** فعينه بالدموع تنسكب

وفي رواية الأصمعي أنها قالت له‏:‏ ما فعلت بك ما فعلت لتكافئني فسأل عنها، فقيل‏:‏ كثيرة‏.‏ فذكرها في شعره‏.‏

ثم مضى حتى دخل مكة فأتى أهله ليلاً، فلما دخل عليهم بكوا، وقالوا‏:‏ ما خرج عنا طلبك إلا في هذه الساعة فانج بنفسك‏.‏ فأقام عندهم حتى أسحر، ثم نهض ومعه العبدان حتى أتى المدينة‏.‏

فجاء إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند المساء، وهو يعشي أصحابه، فجلس معهم وجعل يتعاجم، فلما خرج أصحابه كشف عن وجهه، وقال‏:‏ جئت عائذاً بك‏.‏

فكتب ابن جعفر إلى أم البنين بنت عبد العزيز، وهي زوجة الوليد بن عبد الملك، لتشفع له، فشفعها فيه، وقال لها‏:‏ مريه أن يحضر مجلس العشية‏.‏

فحضر مع الناس، فأذن لهم وأخر الإذن له حتى اخذوا مجالسهم ثم أذن له، فلما دخل عليه، قال عبد الملك‏:‏ يا أهل الشام، أتعرفون هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا عبيد الله بن قيس الرقيات، الذي يقول‏:‏ الخفيف

كيف نومي على الفراش ولم *** تشمل الشام غارةٌ شعواء

تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي *** عن خدام العقيلة العذراء

قالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق‏.‏ قال‏:‏ الآن وقد أمنته وصار على بساطي وفي منزلي‏؟‏ إنما أخرت الإذن له، لتقتلوه، فلم تفعلوا فاستأذنه في الإنشاد فأذن له‏.‏

فأنشده‏:‏

عاد له من كثيرة الطرب

حتى وصل فيها إلى قوله‏:‏ المنسرح

إن الأغر الذي أبوه أبو ال *** عاصي عليه الوقار والحجب

خليفة الله في رعيته *** جفت بذاك الأقلام والكتب

يعتدل التاج فوق مفرقه *** على جبينٍ كأنه الذهب

فقال له عبد الملك‏:‏ يا ابن قيس تمدحني بما يمدح به الأعاجم، وتقول في مصعب بن الزبير‏:‏ الخفيف

إنما مصعبٌ شهابٌ من ال *** له تجلت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك رحمةٍ ليس فيه *** جبروتٌ ولا به كبرياء

يتقي الله في الأمور وقد أف *** لح من كان همه الاتقاء

أما الأمان فقد سبق لك، ولكن - والله - لا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبداً فقال ابن قيس لابن جعفر‏:‏ وما ينفعني أماني‏؟‏ تركت حياً كميتٍ لا آخذ مع الناس عطاء أبداً‏؟‏ فقال له ابن جعفر‏:‏ كم بلغت من السن‏؟‏ قال‏:‏ ستين سنة‏.‏

قال‏:‏ فعمر نفسك‏.‏ قال‏:‏ عشرين سنة‏.‏ قال‏:‏ كم عطاؤك‏؟‏ قال‏:‏ ألفا درهم‏.‏ فأمر له بأربعين ألف درهم‏؟‏ وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ لما قتل مصعب وصار الأمر إلى عبد الملك بن مروان أتى عبيد الله بن قيس عبد الله ابن جعفر يستشفع به إلى عبد الملك، فقال له عبد الله بن جعفر‏:‏ إذا دخلت معي على عبد الملك فكل أكلاً يستشنعه عبد الملك بن مروان‏.‏

ففعل فقال‏:‏ من هذا يا ابن جعفر‏؟‏ قال‏:‏ هذا أكذب الناس إن قتل‏.‏ قال‏:‏ ومن هو‏؟‏ قال‏:‏ الذي يقول‏:‏ المنسرح

ما نقموا من بني أمية *** لا أنهم يحملون إن غضبوا

وأنهم معدن الملوك فل *** تصلح إلا عليهم العرب

قال‏:‏ قد عفونا عنه، ولكن لا يأخذ مع المسلمين عطاء‏.‏ فكان ابن جعفر إذا خرج عطاؤه يعطيه منه‏.‏ انتهى‏.‏

وفي رواية صاحب الأغاني‏:‏ قال ابن قيس الرقيات‏:‏ تسأل أمير المؤمنين عن أمري‏.‏ قال‏:‏ نعم، فإذا دخلت إليه فادخل معي، وإذا دعي بالطعام فكل أكلاً فاحشاً‏.‏

فركب ابن جعفر، فدخل معه إلى عبد الملك، فلما قدم الطعام جعل يسيئ الأكل، فقال عبد الملك‏:‏ من هذا يا بن جعفر‏؟‏ قال‏:‏ هذا إنسانٌ لا يجوز إلا أن يكون صادقاً إن استبقي، وإن قتل كان أكذب الناس‏.‏ قال‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ لأنه الذي يقول‏:‏

ما نقموا من بني أمية *** لا أنهم يحملون إن غضبوا

الأبيات‏.‏

فإن قتلته لغضبك عليه، كذبته فيما مدحكم به‏.‏ قال‏:‏ هو آمن، ولكن لا أعطيه عطاءً من بيت المال‏.‏ قال‏:‏ ولم وقد وهبته لي‏؟‏ فأحب أن تهب لي عطاءه أيضاً كما وهبت لي دمه وعفوت لي عن ذنبه قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ قال‏:‏ وتعطيه ما فاته من العطاء؛ قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ وأمر له بذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ كيف نومي على الفراش البيتين، أوردهما ابن السيد في أول أبيات معانيه، وقال‏:‏ الغارة الاسم، والإغارة المصدر‏.‏ والشعواء‏:‏ الواسعة‏.‏ والخدام‏:‏ جمع خدمةٍ بالتحريك‏:‏ الخلخال‏:‏ وحذف التنوين من خدام للضرورة، والعقيلة فاعل تبدي، ومعناها المرأة التي عقلت، أي‏:‏ حصنت من أن ترى، وهي الكريمة‏.‏ والعذراء‏:‏ البكر‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والثلاثون بعد الخمسمائة

الطويل

ومن طلب الأوتار ما حز أنفه *** قصيرٌ ورام الموت بالسيف بيهس

نعامة لما صرع القوم رهطه *** تبين في أثوابه كيف يلبس

على أن الشاعر قد أتبع اللقب الاسم، فإن بيهساً اسم رجل، ونعامة لقبه، وهو عطف بيان لبيهس‏.‏

قال شارح اللباب‏:‏ هذا من الأجراء في المفرد؛ فإن نعامة وبيهس‏:‏ اسمان لذاتٍ واحدة، والثاني لقب، فكان القياس إضافة العلم إلى اللقب، وقد أجري عليه‏.‏

وكذا قال أبو حيان في تذكرته قال‏:‏ إذا كان الاسم واللقب مفردين بلا أل أضيف الاسم إلى اللقب‏.‏

وقد يجمع بينهما، ويفصل أحدهما عن الآخر، وجاء ذلك في الشعر‏.‏ وأنشد البيتين‏.‏

وما في ما حز إما زائدة، أي‏:‏ ومن طلب الأوتار حز أنفه قصير، وهو إشارة إلى قصة قصير مع الزباء، وهي مشهورة‏.‏ ومصدرية على أنه مبتدأٌ مع خبره، والجار والمجرور وهو من طلب خبره مقدماً عليه، أي‏:‏ حز أنفه حاصلٌ من جهة طلب الأوتار‏.‏ ونعامة عطف بيان لبيهس، وهو محل الاستشهاد‏.‏ ومحل كيف نصبٌ على الحال، والعامل يلبس، والجملة وهي كيف مع ما عمل فيه سادٌّ مسد المفعولين لتبين‏.‏ ولا يجوز أن يكون مفعولاً لتبين لئلا يبطل صدريته‏.‏ انتهى‏.‏

والبيتان من قصيدة للمتلمس أورد منها أبو تمام في الحماسة بعضها‏.‏ وهذا أول ما أورده‏:‏ الطويل

ألم تر أن المرء رهن منيةٍ *** صريعٌ لعافي الطير وسوف يرمس

فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتةٍ *** وموتن بها حراً وجلدك أملس

فمن طلب الأوتار ما حز أنفه ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيتين

وما الناس إلا ما رأوا وتحثو *** وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا

ألم تر أن الجون أصبح راسي *** تطيف به الأيام ما يتأيس

عصى تبعاً أزمان أهلكت القرى *** يطان عليه بالصفيح ويكلس

هلم إليها قد أثيرت زروعه *** وعادت عليها المنجنون تكدس

وذاك أوان العرض حي ذبابه *** زنابيره والأزرق المتلمس

يكون نذيرٌ من ورائي جنةً *** وينصرني منهم جليٌّ وأحمس

وجمع بني قران فاعرض عليهم *** فإن تقبلوا هاتا التي نحن نوبس

فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله *** وإلا فإنا نحن آبى وأشمس

وإن يك عنا في حبيبٍ تثاقلٌ *** فقد كان منا مقنبٌ ما يعرس

هذا ما أورده أبو تمام‏.‏

قال ابن الأعرابي‏:‏ إنما قال هذا فيما كان بين بني حنيفة وبين ضبيعة باليمامة، فأراد بنو حنيفة، فنهاهم أن يقيموا على الذل، وأن يقبلوا الضيم من قومهم، وأمرهم بقتالهم حتى يعطوهم حقهم‏.‏

ومعنى ألم تر‏:‏ ألم تعلم‏.‏ يقول‏:‏ الإنسان مرتهنٌ بأجل، فإما أن يموت حتف أنفه فيدفن، وإما أن يقتل في معركة فيترك لعوافي الطير والسباع‏.‏ وهو جمع عافية، وهو كل طالب رزقٍ من إنسان وبهيمة وطائر‏.‏ والرمس‏:‏ الدفن‏.‏

وقوله‏:‏ فلا تقبلن ضيماً إلخ، الضيم‏:‏ الظلم، والهضم‏.‏ وميتة‏:‏ فعلة من الموت، تكون للحال والهيئة، أي‏:‏ لا تقبل الضيم مخافة حالةٍ من حالات الموت ونوع من أنواعه‏.‏

وميتة مرجع الضمير في بها، أي‏:‏ مت بتلك الميتة حراً لم يستعبدك الحر‏.‏ وجلدك أملس‏:‏ نقيٌّ من العار، سليمٌ من العيب‏.‏

يريد أن الموت نازل بك على كل حال، فلا تتحمل العار خوفاً منه‏.‏

وقوله‏:‏ فمن طلب الأوتار من للتعليل، وما إما زائدة وإما مصدرية‏.‏ والأوتار‏:‏ جمع وتر بفتح الواو وكسرها‏:‏ الثأر والذحل‏.‏ وحز بالحاء المهملة والزاء المعجمة‏:‏ ماضٍ من حززت الخشبة حزاً، من باب قتل‏:‏ فرضتها‏.‏ والحز‏:‏ الفرض‏.‏ وأنفه مفعوله، وقصير فاعله‏.‏ وصرع مبالغة صرعته صرعاً، من باب نفع، إذا قتلته‏.‏ والقوم فاعله، ورهطه مفعوله‏.‏ والرهط‏:‏ ما دون عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة، وقيل‏:‏ من سبعة إلى عشرة‏.‏ وما دون السبعة إلا ثلاثةٍ نفرٌ‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ الرهط والنفر‏:‏ ما دون العشرة من الرجال‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ الرهط والنفر والقوم والمعشر والعشيرة، معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم؛ وهو للرجال دون النساء‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ الرهط والعترة بمعنًى‏.‏ ورهط الرجل‏:‏ قومه وقبيلته الأقربون‏.‏ كذا في المصباح‏.‏ وتبين بمعنى علم‏.‏ وهذا الكلام من المتلمس تحضيضٌ على دفع الضيم وركوب الإباء من التزام العار، فلذلك أخذ يذكر بحال من لم يزل يحتال حتى أدرك مباغيه من أعدائه‏.‏

وفي البيت إشارةٌ إلى قصتين‏:‏ إحداهما‏:‏ قصة قصير صاحب جذيمة الأبرش مع الزباء، والثانية‏:‏ قصة بيهس‏.‏

أما الأولى فقد رواها صاحب الأغاني عن ابن حبيب، قال‏:‏ كان جذيمة الأبرش من أفضل الملوك رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدهم نكاية‏.‏ وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق‏.‏

وكانت منازله ما بين الأنبار، ورقة، وهيت، وعين التمر، وأطراف البر، والقطقطانة، والحبرة‏.‏

فقصد في جموعه عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي، من عاملة العماليق، فجمع عمرٌو جموعه ولقيه، فقتله جذيمة، وفض جموعه فانفلوا وملكوا بعده عليهم ابنته الزباء، وكانت من أحزم النساء، فخافت أن يغزوها ملوك العرب، فاتخذت لنفسها نفقاً في حصنٍ كان لها على شاطئ الفرات، وسكرت الفرات في وقت قلة الماء، وبني في بطنه أزجاً من الآجر والكلس، متصلاً بذلك النفق، وجعلت نفقاً آخر في البرية متصلاً بمدينة أختها، ثم أجرت الماء عليه، فكانت إذا خافت عدواً دخلت النفق‏.‏

فلما استجمع لها أمرها واستحكم ملكها أرادت أن تغزو جذيمة ثائرةً بأبيها، فقالت لها أختها، وكانت ذات رأي وحزم‏:‏ الرأي ابعثي إليه فأعلميه، أنك قد رغبت في أن تتزوجيه، وتجمعي ملكك، وسليه أن يجيبك، فإن اغتر ظفرت به بلا مخاطرة‏.‏

فكتبن إليه بذلك، فاستخفه الطمع، وشاور أصحابه فكلٌّ صوب رأيه في قصدها وإجابتها، إلا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة ابن لخم، فقال‏:‏ هذا رأي فاتر، وغدرٌ حاضر، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا فلا تملكها من نفسك‏.‏

فلم يوافق جذيمة قوله ورحل إليها، فلما دخل عليها أمرت بقطع رواهشه، ونزف دمه إلى أن مات‏.‏

فخرج قصيرٌ إلى عمرو بن عدي، ابن أخت جذيمة، فقال‏:‏ هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بدم خالك‏؟‏ فجعل ذلك له، فأتى القادة والأعلام، فقال‏:‏ أنتم القادة والرؤساء، وعندنا الأموال والكنوز‏.‏

فانصرف إليه منهم بشرٌ كثير، وملكوا عمرو بن عدي، فقال قصير‏:‏ انظر ما وعدتني به في الزباء‏.‏

قال‏:‏ وكيف، وهي أمنع من عقاب الجو‏؟‏ فقال‏:‏ إذا أبيت فإني جادعٌ أنفي وأذني، ومحتالٌ لقتلها، فأعني وخلاك ذم‏.‏ فقال له عمرو‏:‏ أنت أبصر‏.‏ فجدع قصيرٌ أنفه، ثم انطلق، حتى دخل على الزباء، فقال‏:‏ أنا قصير، لا ورب البشر ما كان عليظهر الأرض أحدٌ كان أنصح لجذيمة مني ولا أغش لك، حتى جدع عمرو ابن عدي أنفي وأذني، فعرفت أني لم أكن مع أحد أثقل عليه منك‏.‏

فقالت‏:‏ أي قصير، نقبل ذلك منك ونصرفك في بضاعتنا‏.‏ فأعطته مالاً للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة، فأخذ مما فيه بأمر عمرو بن عدي ما ظن أنه يرضيها، وانصرف إليها به‏.‏

فلما رأت ما جاء به، فرحت به، وزادته، ولم يزل بها حتى أنست به، فقال لها يوماً‏:‏ إنه ليس من ملكةٍ ولا ملك، إلا وينبغي لها أن تتخذ نفقاً تهرب إليه عند حدوث حادثة‏.‏

فقالت‏:‏ إني قد فعلت ذلك، تحت سريري هذا، يخرج إلى نفقٍ تحت سرير أختي‏.‏ وأرته إياه‏.‏ فأظهر سروراً بذلك، وخرج في تجارته كما كان يفعل، وعرف عمرو بن عدي ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارعٍ على ألف بعير في جوالق، حتى إذا صاروا إليها تقدم قصيرٌ ودخل على الزباء، فقال‏:‏ اصعدي حائط مدينتك، فانظري إلى مالك، فإني قد جئت بمالٍ صامت‏.‏

وقد كانت أمنته فلم تكن تتهمه، فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت - وقيل إنه مصنوعٌ منسوب إليها -‏:‏ الرجز

ما للجمال مشيها وئيد *** أجندلاً يحملن أم حديدا

الأبيات المشهورة‏.‏

فلما دخلت الإبل خرجوا من الجوالق، فثاروا بأهل المدينة ضرباً بالسيف، ودخلوا عليها قصرها فهربت تريد السرب، فوجدت قصيراً قائماً عنده بالسيف، فانصرفت راجعة، واستقبلها عمرو بن عدي فضربها‏.‏ وقيل‏:‏ بل مصت خاتمها، وقالت‏:‏ بيدي لا بيد عمرو وخربت المدينة وسبيت الذراري، وغنم عمرٌو كل شيءٍ كان لها ولأبيها وأختها‏.‏ انتهى‏.‏

وأما بيهس الذي يلقب نعامة فهو رجلٌ من بني فزارة، وكان يحمق، فقتل له سبعة إخوة، فجعل يلبس القميص مكان السراويل، والسراويل مكان القميص، فإذا سئل عن ذلك قال‏:‏ الرجز

البس لكل حالةٍ لبوسه *** إما نعيمها وإما بوسها

فتوصل بما صوره من حاله عند الناس، إلى أن طلب بدماء إخوته‏.‏

وقوله‏:‏ البس لكل حالة إلخ، قال الزمخشري في أمثاله‏:‏ قاله بيهس حين شق قميصه، فغطى به رأسه، وكشف استه بعد قتل إخوته‏.‏ وإنما أراد أنه افتضح بقتلهم، وإنه إن لم يثأر بهم، فهو كالمقنع رأسه واسته مكشوفةٌ‏.‏ يضرب في تلقي كل حال بما يليق بها‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أورده في الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلمناه صنعة لبوس‏}‏ على أن أصل لبوس اللباس، بمعنى ما يلبس‏.‏

وقد أخطأ خضرٌ الموصلي في شرح شواهد التفسيرين في نسبته إلى بيهس ابن صهيب القضاعي، وهو شاعر إسلامي في الدولة المروانية، وقد ترجمه الأصبهاني في الأغاني بحكاياتٍ ونقلها خضر منها، ونسبها إلى قائل البيت‏.‏ وقد حصل له اشتباهٌ من اتفاق الاسمين‏.‏

وقائل البيت جاهليٌّ، وقد ضرب به المثل في الجاهلية‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ المدركون الثأر في الجاهلية ثلاثة‏:‏ بيهس، وقصير، وسيف ابن ذي يزن‏.‏

وبيهس صاحب البيت كما في الجمهرة هو بيهس بن خلف بن هلال بن غراب بن ظالم بن فزارة بن ذبيان‏.‏ فهو عدنانيٌّ، وذاك قحطاني‏.‏

قال ابن الكلبي في الجمهرة‏:‏ بيهس وإخوته التسعة، منهم‏:‏ نفر، وربيع، وحصين، بنو خلف، كانوا من أشطر فتيان العرب‏.‏ انتهى‏.‏

والمشهور أنهم سبعة‏.‏

وهذه قصته من مجمع الأمثال للميداني، قال‏:‏ بيهس الفزاري الملقب بنعامة كان سابع سبعة إخوةٍ، فأغار عليهم ناسٌ من أشجع، بينهم وبينهم حرب، وهم في إبلهم، فقتلوا منهم ستة وبقي بيهس، وكان يحمق، وكان أصغرهم، فأرادوا قتله، ثم قالوا‏:‏ وما تريدون من قتل هذا، يحسب عليكم برجلٍ، ولا خير فيه‏.‏ فتركوه، فقال‏:‏ دعوني أتوصل معكم‏.‏

فلما كان من الغد نزلوا، فنحروا جزوراً في يوم شديد الحر، فقالوا‏:‏ ظللوا لحمكم لا يفسد‏.‏ فقال بيهس‏:‏ لكن بالأثلات لحماً لا يظلل يريد إخوته، فذهبت مثلاً‏.‏

فلما قال ذلك، قالوا‏:‏ إنه لمنكرٌ، وهموا أن يقتلوه، ثم تركوه وظلوا يشوون من لحم الجزور ويأكلون، فقال أحدهم‏:‏ ما أطيب يومنا وأخصبه فقال بيهس‏:‏ لكن على بلدح قومٌ عجفى ‏.‏ فأرسلها مثلاً‏.‏

ثم انشعب طريقهم فأتى أمه، فأخبرها الخبر، قالت‏:‏ فما جاءني بك من بين إخوتك‏؟‏ فقال بيهس‏:‏ لو خيرت لاخترت ‏.‏ فذهبت مثلاً‏.‏

ثم إن أمه عطفت عليه ورقت، فقال الناس‏:‏ لقد أحبت أم بيهس بيهساً‏.‏ فقال‏:‏ ثكلٌ أرأمها ولداً ، أي‏:‏ أعطفها على ولد‏.‏ فأرسلها مثلاً‏.‏

ثم إن أمه جعلت تعطيه ثياب إخوته فيلبسها، فيقول‏:‏ يا حبذا التراث لولا الذلة ‏.‏ فأرسلها مثلاً‏.‏

ثم إنه أتى على ذلك ما شاء الله فمر بنسوة من قومه يصلحن امرأة منهن، يردن أن يهدينها لبعض قتلة إخوته، فكشف ثوبه عن استه وغطى رأسه، فقلن‏:‏ ويلك ما تصنع يا بيهس‏؟‏ فقال‏:‏

البس لكل حالة‏.‏‏.‏ البيت‏.‏

فأرسلها مثلاً‏.‏

ثم أمر نساءً من بني كنانة وغيرها فصنعن له طعاماً، فجعل يأكل، ويقول‏:‏ حبذا كثرة الأيدي في غير طعام ‏.‏ فأرسلها مثلاً، فقالت أمه‏:‏ لا يطلب هذا بثأر فقال‏:‏ لا تأمن الأحمق وفي يده سكين ‏.‏ فأرسلها مثلاً‏.‏

ثم إنه أخبر أن أناساً من أشجع في غارٍ يشربون فيه، فانطلق بخالٍ له يقال له أبو حنش، فقال له‏:‏ هل لك في غارٍ فيه ظباءٌ لعلنا نصيبٌ منها‏؟‏ ويروى‏:‏ هل لك في غنيمة باردة‏؟‏ ‏.‏ فأرسلها مثلاً‏.‏

فانطلق بيهس بخاله حتى أقامه على فم الغار، ثم دفع أبا حنش في الغار، فقال‏:‏ ضرباً أبا حنش فقال بعضهم‏:‏ إن أبا حنش لبطل فقال أبو حنش‏:‏ مكرهٌ أخاك لا بطل ‏.‏ فأرسلها مثلاً‏.‏

فقتلهم جميعاً، وجعل يتتبع قتله إخوته ويتقصاهم حتى قتل منهم أناساً كثيراً‏.‏

وقوله‏:‏ لكن على بلدح قومٌ عجفى يضرب في التحزن بالأقارب‏.‏ وبلدح، كجعفر‏:‏ جبلٌ في طريق جدة، على أربعة أميال من مكة‏.‏

وقوله‏:‏ وما الناس إلا ما رأوا إلخ، رواه أبو عمرو‏:‏ الطويل

وما البأس إلا حمل نفسٍ على السرى *** وما العجز إلا نومةٌ وتشمس

ومعنى الأول‏:‏ ما الناس إلا رؤية وتحدث، أي‏:‏ اعتبار بالمشاهدة وبما يروى من أخبار الأمم‏.‏

وقوله‏:‏ ألم تر أن الجون إلخ، بفتح الجيم‏:‏ حصن اليمامة‏.‏ يقول‏:‏ لا توعدونا فإن حصننا حصين لا يوصل إليه، ولا يستباح حماه‏.‏ وجملة‏:‏ تطيف إلخ، إما في موضع خبر ثان لأصبح، وإما صفة لراسياً‏.‏ وما يتأيس‏:‏ لا يلين، في موضع الحال‏.‏

وقوله‏:‏ عصى تبعاً أزمان إلخ، يقول‏:‏ إن تبعاً لما غزا القرى والمدن، لم يصل إلى اليمامة‏.‏ ويطان عليه بالصفيح، أي‏:‏ يجعله بدل طينه في الإصلاح والعمارة‏.‏

ويجوز أن يكون بالصفيح حالاً، أي‏:‏ يطان ويكلس بصفاحه، أي‏:‏ هو مبنيٌّ بالحجارة‏.‏ ويكلس‏:‏ يصهرج‏.‏ والكلس‏:‏ الصاروج‏.‏ والصفيح‏:‏ الحجارة العراض‏.‏

ومعناه أنه يبنى على المياه التي هي كالصفيح‏.‏ والصفيح‏:‏ السيوف، واحدها صفيحة‏.‏ ويشبه الماء إذا كان صافياً بالسيف‏.‏ وذكر الماء وأراد العمارة، لأنها به تكون‏.‏

وقوله‏:‏ هلم إليها إلخ، يخاطب النعمان‏.‏ وهذا تهكمٌ وسخرية‏.‏ يقول‏:‏ إن قدرت عليها، فاقصدها، فإنها أخصب ما يكون، مزدرعها مثار، ودواليبها تدور‏.‏ وضمير إليها لليمامة‏.‏ والمنجنون‏:‏ الدولاب‏.‏ ومعنى تكدس‏:‏ يركب بعضها بعضاً في الدوران‏.‏ ويستعمل في سير الدواب وغيرها‏.‏

وقوله‏:‏ وذاك أوان العرض ، بكسر العين المهملة‏:‏ واد من أودية اليمامة‏.‏ وحي، أي‏:‏ عاش بالخصب‏.‏ وروى‏:‏ جن، أي‏:‏ كثر ونشط‏.‏ وزنابيره بدل من ذبابه‏.‏ وذباب الروض قد يسمى الزنابير‏.‏

وقوله‏:‏ الأزرق المتلمس‏:‏ جنسٌ آخر يكون أخضر ضخماً‏.‏ والمتلمس‏:‏ الطالب‏.‏

وقد سمي الشاعر المتلمس بهذا البيت، واسمه جرير‏.‏ ولك أن تنصب الأوان وترفع العرض بالابتداء، واسم الزمان يضاف إلى الجمل، كأنه قال‏:‏ وهذا الذي ذكرت هو في ذاك الأوان‏.‏

وقوله‏:‏ يكون نذير من ورائي إلخ، هو نذير من بهثة بن وهب‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالنذير‏:‏ المنذر‏.‏ والمعنى‏:‏ إني لمرصدٌ لهم، من ينذرني بهم، فأتقي وأتحرز‏.‏ وجليٌّ، بضم الجيم وفتح اللام وتشديد الياء؛ وأحمس‏:‏ بطنان من ضبيعة بن ربيعة‏.‏

يقول‏:‏ فإذا جاء وقت التحارب، قام بنصري هذان البطنان‏.‏ وقيل‏:‏ نذيرٌ وجليٌّ‏:‏ أخوان، وأحمس بن ضبيعة أبوهما‏.‏ يقول‏:‏ هم ينصرونني، ويكونون لي وقايةً من العدو‏.‏

وقوله‏:‏ وجمع بني قران إلخ، جمع منصوب بفعل مضمر، كأنه قال‏:‏ سم جمع بني قران‏.‏

ومعنى البيت‏:‏ أجرونا مجرى نظائرنا، فإنا نرضى بهم قدوة، واعرضوا ما تسوموننا على بني قران، فإن التزموه وقبلوه فلنا بهم أسوة، وإلا فالامتناع واجب‏.‏

وقوله‏:‏ هاتا إلخ، أي‏:‏ هذه الخطة التي نكره عليها‏.‏ والأبس‏:‏ القهر‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ أبست الرجل، إذا لقيته بما يكره، وأبسته إذا وضعت منه باستخفافٍ وإهانة‏.‏

قوله‏:‏ فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله إلخ، أعاد الشرط وذلك أنه قال قبل هذا‏:‏ فإن يقبلوا هاتا، ولم يأت له بجواب، ثم قال‏:‏ فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله، فاكتفى بجوابٍ واحد لاشتماله على ما يكون جواباً لهما، فكأنه قال‏:‏ إن قبلوا ما نوبس به نقبل مثله، وأن أقبلوا بعد ذلك وادين أقبلنا، وإلا فنحن أشد وأبلغ شماساً، أي‏:‏ امتناعا‏.‏

وكانوا بنو ضبيعة حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، فوقع بينهم نزاع، فعاتبهم المتلمس‏.‏

وقوله‏:‏ وإن يك عنا إلخ، أراد‏:‏ حبيب فخفف، وهو حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل‏.‏ يقول‏:‏ إن تكاسل بنو حبيب عن إدراك ثأرنا فقد كان منا من يدأب ويسهر‏.‏ والمقنب، بالكسر‏:‏ زهاء ثلثمائةٍ من الخيل‏.‏ والتعريس‏:‏ النزول في آخر الليل‏.‏

وقوله‏:‏ ما يعرس ، أي‏:‏ ما يستقرون إذا وتروا، ولكنهم يغزون ويغيرون أبداً حتى يدركوا بثأرهم‏.‏ والمتلمس شاعرٌ جاهلي، واسمه جرير بن عبد المسيح، وسمي المتلمس بالبيت المذكور‏.‏

وقد تقدمت ترجمته مفصلة في الشاهد التاسع والستين بعد الأربعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والثلاثون بعد الخمسمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

ألا يا ديار الحي بالسبعان

على أن السبعان أعرب بالحركة على النون مع لزوم الألف‏.‏ وإذا نسب إليه قيل‏:‏ السبعاني‏.‏

وقال الزمخشري في باب النسب في المفصل‏:‏ ومنذ لك قنسريٌّ ونصيبيٌّ، فيمن جعل الإعراب قبل النون‏.‏ ومن جعله معتقب الإعراب، قال‏:‏ قنسريني‏.‏ وقد جاء مثل ذلك في التثنية، قالوا‏:‏ خليلانيٌّ، وجاءني خليلان اسم رجل‏.‏ وعلى هذا قوله‏:‏

ألا يا ديار الحي بالسبعان

قال ابن المستوفي‏:‏ وجدت بخط الزمخشري‏:‏ ومن جعله معتقب الإعراب، بكسر القاف‏.‏ وقد صحح عليه مرتين‏.‏ فالمفتوح القاف مصدر، والمكسورها اسم فاعل‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أورد سيبويه هذا المصراع في أوزان الأسماء، قال‏:‏ ويكون على فعلانٍ وهو قليل، قالوا‏:‏ السبعان، وهو اسمٌ‏.‏

قال ابن مقبل‏:‏

ألا يا ديار الحي بالسبعان

انتهى‏.‏

وأورده ابن قتيبة في أدبالكاتب على أنه لم يأت اسمٌ على فعلان إلا حرف واحد‏.‏

وكذلك قال أبو عبيدٍ عبد الله البكري في شرح أمالي القالي‏.‏ وقال في معجم ما استعجم‏:‏ السبعان، بفتح أوله وضم ثانيه على بناء فعلان، هكذا ذكره سيبويه، وه جبلٌ قبل الفلج‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ والفلج، بفتح الفاء وسكون اللام بعدها جيم‏:‏ موضعٌ في بلاد بني مازن، وهو في طريق البصرة إلى مكة‏.‏

وقال ياقوت في معجم البلدان‏:‏ السبعان منقول من تثنية السبع بفتح فضم، قال أبو منصور‏:‏ هو موضعٌ معروف في ديار قيس‏.‏

وقال نصر‏:‏ السبعان‏:‏ جبلٌ قبل فلج، وقيل‏:‏ واد شمالي سلم عنده جبلٌ، يقال له‏:‏ العبد، أسود ليس له أركان‏.‏ ولا يعرف في كلامهم اسمٌ على فعلان غيره‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا المصراع وقع صدر بيتٍ هو مطلع قصيدتين لشاعرين إحداهما لتميم بن مقبل، وهو شاعرٌ إسلاميٌّ مخضرم، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

والثانية لشاعر جاهليٍّ من بني عقيل‏.‏

أما الأولى وهي المشهورة التي ذكرها شراح الشواهد، فهذه أبيات من أولها‏:‏

ألا يا ديار الحي بالسبعان *** أمل عليها بالبلى الملوان

نهارٌ وليلٌ دائبٌ ملواهم *** على كل حال الناس يختلفان

ألا يا ديار الحي لا هجر بينن *** ولكن روعاتٍ من الحدثان

لدهماء إذ للناس والعيش غرةٌ *** وخلقانا بالصبا عسران

وقوله‏:‏ ألا يا ديار الحي إلخ، ألا‏:‏ حرف تنبيه‏.‏ يتأسف على ديار قومه بهذا المكان، ويخبر أن الملوين، وهما الليل والنهار، أبلياها ودرساها‏.‏ والحي‏:‏ القبيلة‏.‏

وقوله‏:‏ بالسبعان متعلق بمحذوف على أنه حال من ديار‏.‏

وقوله‏:‏ أمل عليها فيه التفاتٌ؛ لأنه لم يقل عليك‏.‏ قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب‏:‏ هو من أمللت الكتاب أمله‏.‏ خاطبها، ثم خرج عن خطابها إلى الإخبار عن الغائب‏.‏

وقيل‏:‏ ويجوز أن يكون من أمللت الرجل، إذا أضجرته وأكثرت عليه ما يؤذيه، كأن الليل والنهار أملاها من كثرة ما فعلا بها من البلى‏.‏ والملوان‏:‏ الليل والنهار ولا يفرد واحدٌ منهما‏.‏ يريد أن الليل والنهار، أملا عليها أسباب البلى، فزاد الباء كما قال‏:‏ البسيط

لا يقرأن بالسور

انتهى‏.‏

وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي‏:‏ أمل بمعنى دأب ولا زم، ومن هذا قيل للدين‏:‏ ملة، لأنها طريقة تلازم‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ أمل في معنى أملى، أي‏:‏ طال‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ أمله وأمل عليه، أي‏:‏ أسأمه، فأراد بأمل عليها، أسامها الملوان بالبلى لكثرة اختلافهما عليها‏.‏ والبلى، بالكسر والقصر، مصدر بلي الثوب يبلي، من باب تعب، بلًى وبلاءً بالفتح والمد، أي‏:‏ خلق، فهو بالٍ‏.‏ وبلي الميت‏:‏ أفنته الأرض‏.‏

وأنشد ابن السكيت هذا البيت في إصلاح المنطق على أن الملوين فيه بمعنى الليل والنهار‏.‏

وقال أبو عبيد البكري، وابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب‏:‏ جعل الشاعر الملوين هنا بمعنى الغداة والعشي، ويدل عليه قوله بعده‏:‏

نهارٌ وليلٌ دائبٌ ملواهم ودأب‏:‏ اجتهد وبالغ في العمل‏.‏

وقوله‏:‏ على كل ، متعلق بدائب‏.‏ والروعة‏:‏ المرة من الروع، وهو الفزع‏.‏ والحدثان مصدر حدث الشيء، من باب قعد، إذا تجدد‏.‏ أراد حوادث الدهر‏.‏ والغرة، بالكسر‏:‏ الغفلة‏.‏ وخلقانا‏:‏ مثنى خلق بضمتين، مضاف إلى نا‏.‏

وأما الثانية فقد أورد خمسة أبيات من أولها إبراهيم الحصري في كتابه زهر الآداب، وقال‏:‏ إنها لشاعرٍ جاهلي من بني عقيل‏.‏ وتابعه ياقوت في معجم البلدان، وهي‏:‏

ألا يا ديار الحي بالسبعان *** عفت حججاً بعدي وهن ثماني

فلم يبق منها غير نؤيٍ مهدمٍ *** وغير أثافٍ كالركي دفان

وآثار هابٍ أورق اللون سافرت *** به الريح والأمطار كل مكان

قفارٌ مروراةٍ يحار بها القط *** ويضحي بها الجأبان يفترقان

ينيران من نسج الغبار ملاءةً *** قميصين أسمالاً ويرتديان

وقوله‏:‏ عفت حججاً ، يقال‏:‏ عفت الدار تعفو، أي‏:‏ اندرست وذهب أثرها‏.‏ والحجج‏:‏ جمع حجة بكسر أولهما‏:‏ السنة‏.‏

وروى ياقوت‏:‏

خلت حججٌ بعدي لهن ثمان

وقوله‏:‏ فلم يبق منها إلخ، النؤي‏:‏ حفيرةٌ حول الخباء لئلا يدخله ماء المطر‏.‏ والأثافي‏:‏ جمع أثفية، وهي ثلاثة أحجار تكون عليها القدر‏.‏ والركي‏:‏ جمع ركية، وهي البئر‏.‏ ودفان، بكسر الدال بعدها فاء، يقال‏:‏ ركية دفين ودفان، إذا اندفن بعضها‏.‏ والجمع دفن بضمتين‏.‏

وقوله‏:‏ وآثار هابٍ الهابي‏:‏ التراب الناعم الدقيق، وهو اسم فاعل من هبا يهبو هبواً، أي‏:‏ ارتفع‏.‏ والهباء‏:‏ دقاق التراب‏.‏ والهابي أيضاً‏:‏ تراب القبر‏.‏

وأنشد له الأصمعي‏:‏ الطويل

وهابٍ كجثمان الحمامة أجفلت *** به ريح ترجٍ والصبا كل مجفل

والمراد به هنا الرماد، لأن الورقة هي لون الرماد‏.‏

وقوله‏:‏ قفار مروراة إلخ، القفار‏:‏ جمع قفر، وهو المكان الذي لا ماء فيه ولا نبات، وهو صفة لمكانٍ قبله‏.‏ والمروراة بفتح الميم والراء، قال في الصحاح‏:‏ هي المفازة التي لا شيء فيها، وهي فعوعلة والجمع المرورى والمروريات والمراوي‏.‏ والجأب، بفتح الجيم وسكون الهمزة‏:‏ الحمار الغليظ من حمر الوحش‏.‏ وأراد بالجأبين الذكر والأنثى، وإنما يفترق كل منهما عن الآخر لعدم القوت‏.‏

وقوله‏:‏ ينيران من نسج إلخ، أي‏:‏ يحوكان، يقال‏:‏ أنرت الثوب وهنرته، أي‏:‏ حكته‏.‏ ويقال أيضاً‏:‏ نرته أنيره نيراً بالكسر‏.‏ والنير‏:‏ علم الثوب ولحمته‏.‏

وفي القاموس‏:‏ النير علم للثوب‏.‏ ونرت الثوب نيراً ونيرته وأنرته‏:‏ جعلت له نيراً‏.‏ وهدب الثوب‏:‏ لحمته‏.‏ ومن نسج، كان صفةً لقميصين، فلما قدم عليه صار حالاً منه‏.‏ والملاءة، بالضم والمد‏:‏ الريطة‏.‏ وقميصين‏:‏ بدل من ملاءة، وملاءة‏:‏ مفعول ينيران، وعليهما‏:‏ حال من الغبار‏.‏ وأسمالاً‏:‏ خلقاً، يقال‏:‏ ثوب أسمالٌ، أي‏:‏ خلق‏.‏ ويرتديان‏:‏ معطوف على ينيران، ومعناه يلبسان‏.‏ يريد أن الحمارين، لشدة عدوهما، يثور التراب ويعلوهما، فيصير كالثوب عليهما‏.‏ وإنما اشتد عدوهما للنجاة من هذه المفازة‏.‏

قال ياقوت‏:‏ زعموا أن أول من جعل الغبار ثوباً هذا الشاعر‏.‏ وكذلك قال الحصري‏:‏ هو أول من نظر إلى هذا المعنى، وتبعته الخنساء في قولها من أبيات، وقد قيل لها‏:‏ لقد مدحت أخاك، حتى هجوت أباك، فقالت‏:‏ الكامل

جارى أباه فأقبلا وهم *** يتعاوران ملاءة الحضر

وهذه أبرع عبارة، وأنصع استعارة‏.‏

وتبعها عدي بن الرقاع في وصف حمار وأتانه‏:‏ الكامل

يتعاوران من الغبار ملاءةً *** بيضاء محدثةً هما نسجاها

تطوى إذا وردا مكاناً جاسي *** وإذا السنابك أسهلت نشراها

قال شارح ديوانه‏:‏ قوله‏:‏ يتعاوران إلخ، أي‏:‏ تصير الغبرة للعير مرة وللأتان مرة‏.‏ ويقال من العارية‏:‏ قد تعورنا العواري‏.‏ والمكان الجاسي‏:‏ الغليظ، فإذا جريا فيه لم يكن لهما غبرةٌ، وإذا أسهلا، أي‏:‏ صارا إلى سهولة الأرض، ثار لهما غبار‏.‏

فجعل إثارة الغبار بمنزلة ملاءة تنشر عليهما، وزوال الغبار بمنزلة طي الملاءة‏.‏ وهذا أحسن ما قيل في وصف الغبار والعجاج‏.‏

وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي في وصف كثرة ظعنه وقصده الملوك‏:‏ الوافر

يثير عجاجةً في كل يومٍ *** يهيم بها عدي بن الرقاع

وقد سلك البحتري طريقة الخنساء، وأحسن فيه، إذ يقول في يوسف بن أبي سعيد‏:‏ الكامل

جدٌّ كجد أبي سعيدٍ إنه *** ترك السماك كأنه لم يشرف

قاسمته أخلاقه وهي الردى *** للمعتدي وهي الندى للمعتفي

فإذا جرى في غايةٍ وجريت في *** أخرى التقى شأواكما في المنصف

وأنشد بعده‏:‏